-
حوار وطني مُلحّ أم مصالحة تركية تقود إلى "لبننة" سوريا؟
ليفانت: بشار عبود
ثمة انطباع واسع لدى جمهور كبير من السوريين يكاد يجزم بأن أي حوار "سياسي وطني ديمقراطي سوري" محكوم بالفشل.
البعض يعزو يأسه هذا، إلى قوة حجم الاستقطاب الإقليمي والدولي للأطراف السورية المتصارعة، حيث كل طرف يتموضع إلى جانب إحدى الدول اللاعبة ويتصرف بما تمليه عليه مصالحها، بغض النظر عن المصلحة العليا للوطن السوري. فيما لا يقلل البعض من ضراوة الأنا المتضخمة للنُّخَب السورية التي ساهمت إلى حدٍّ كبير بعدم الاتفاق على أرضية مشتركة يمكنهم الاستناد إليها في العمل السياسي والوطني. رغم كل هذا الهول والمستنقع الذي نغرق به، لم يجرؤ أي طرف سوري ـ حتى الآن ـ، أن يخرج من حالتيّ الاستقطاب الخارجي أو الأنا المريضة، لا بل على العكس، هما تزدادان اتساعاً وتنذران بأخطار مستقبلية غير مسبوقة، قد تنتهي معهما أية مساعٍ باتجاه بناء دولة سورية ديمقراطية يعيش في كنفها الجميع، أقلّه مثلما كانت عليه قبل عام 2011.
أكثر ما يشير إلى إمكانية حدوث مثل هذا الخراب المنظور، هو ما يتم التحضير له عربياً وإقليمياً بموافقة شفهية غربية، من تقارب بين العدوّين اللدودين رجب طيب أردوغان وبشار الأسد، رغم ما صنع الحدّاد بينهما خلال السنوات الماضية. فقد قلبت تصريحات الغزل "العائلية" الأخيرة للرئيس التركي تجاه نظيره السوري طاولة اللعبة في الشرق الأوسط. فهي من جهة، لن تعيد فقط رسم تعقيدات إضافية للأزمة السورية وما يتركه عليها من تداعيات ستطال عموم المنطقة، وإنما ستكون مسماراً جديداً موجعاً سيتم دقّه في جسد الهوية الوطنية السورية، وتحديداً في رسم العلاقة بين الكرد والعرب.
من نافل القول، بإن تركيا بلغت موضعاً من الأزمة السورية لا يمكن لأحد إزاحتها عنه، فهذه حقيقة يصعب تجاهلها، وهي على أية حال، تذكرنا بما بلغته سوريا في لبنان بعد دخولها الأراضي اللبنانية عام 1976، بقرار عربي ورضى إقليمي ودولي. فقد استطاعت حينها الدولة السورية أن ترسم سياسة شقيقتها اللبنانية بما يخدم هوى دمشق، فنسّقت مع حلفاء لبنانيين وأقصت آخرين وخلقت زعماء محلييّن وأخفت الكثير منهم، وأعادت ترتيب البيت اللبناني بما يناسب حضورها حتى أصبح مركز عنجر بإدارة غازي كنعان صاحب القرار الأول والأخير في لبنان.
وبمقارنة بسيطة بين إمكانيات الدولة السورية آنذاك، حين أرخت قبضتها على الجار الصغير، وإمكانيات الدولة التركية الآن، إذا ما أرادت فعل الأمر ذاته مع سوريا، والذي نقرؤه من خلال التصريحات الأخيرة للرئيس أردوغان، فلا شك أن الكفة ستميل لصالح الأتراك. من هنا، يمكن قراءة هذه التصريحات، بعد استعصاء الحل السوري، محاولة جديدة لإعادة رسم ملامح المشهد السوري بما يناسب الهوى التركي. خصوصاً وأن لأنقرة مصلحة قومية عليا بعدم السماح للكرد السوريين أن يشكلوا نواة ديمقراطية علمانية وطنية، تجذب بقية مكونات الشعب السوري، ويمكن الاستناد إليها من أجل إعادة بناء الدولة السورية على أسس جادة ومعايير جديدة.
إذا ما نجحت الخطة الإقليمية التي تقودها العراق برعاية روسية في إجراء مصالحة بين نظامي أنقرة ودمشق. فإن لتركيا مصلحة كبيرة في إتمامها، كونها ستزيح عن كاهلها مسألة مواجهة عسكرية محتملة مع قوات سوريا الديمقراطية، إذ يمكن للجيش السوري أن يتولى المهمة بعد تدعيمه بمرتزقة من "الجيش الوطني". وأيضا للنظام السوري مصلحة كبيرة بإتمام هذا التقارب كونه سيعيده كواجهة شرعية وسيكون منطلقاً له لاستعادة سيطرته، ولو "شكلياً"، على أهم جزء لاقتصاد البلاد. فمن هو أفضل من أردوغان الذي يستحوذ على المعارضة السياسية والعسكرية السورية كي يسدي له مثل هذه الخدمة؟
جرّب الأتراك توجيه المرتزقة السوريين نحو بلاد بعيدة، ونجحت أنقرة في التجربة حتى ضمنت توجيه بندقيتهم وفقاً لرغباتها. فإذا ما تمكن أردوغان من إعادة استقطاب الأسد، فإنه لن يكون صعباً عليه توظيف "جيش المعارضة" لمساندة نظام الأسد، وخصوصاً إذا ما تعلق الأمر في تصفية القضية الكردية. إذاً، ثمة مصالح جديرة بأن ينسى معهما الرئيسان خلافاتهما السابقة والبدء بصفحة جديدة حتى لو كانت على حساب الشعب السوري بكل مكوناته من الساحل مروراً بإدلب وصولا إلى الحسكة والقامشلي.
على طول الأزمة السورية لم تكن تركيا ساذجة، فعندما أطلق أردوغان صاحب العبارة الأشهر في ملف اللاجئين السوريين "المهاجرون والأنصار" كان يؤسس حينها لجمهور سوري واسع بنكهة تركية ليكون جاهزاً وقت الحصاد. فالفصائل السورية الموالية لتركيا ستكون جاهزة على الدوام لرد الديون، تارة باسم "الولاء والبراء" وأخرى باسم مطلق الامتنان للسلطان وحاشيته.
في ظل هذا الواقع الأليم الذي نحياه، وفي ظل الهول الأكبر الذي ينتظرنا، هل ثمة فائدة مرجوة من أي حوار وطني يلتف حوله السوريون؟ وهل يمكن الحديث عن إمكانية إجراء مثل هذا الحوار؟ هل يمكن لأطياف القوى السياسية السورية أن تلتقي تحت سقف الديمقراطية والوطنية وتخلق واقعاً مغايراً لما يتم رسمه للسوريين خارج حدودهم؟ هل يمكن إيجاد مساحة مشتركة يمكن التقاء السوريين فيها من أجل وقف حمام الدم المنتظر وإبعاد شبح الحروب فيما بينهم؟
صحيح أن حوارات السوريين بين بعضهم البعض لم تفض، حتى الآن، عن أي تعاون من أجل إيجاد حل لمستقبل بلدهم. وصحيح أيضاً أن الوصف الأكثر ملاءمة لتلك الحوارات هي الفشل الذريع الذي ساهم في تعميق الهوة بين جميع الأطراف. لكن بالنظر إلى ما ينتظرنا بعد تصريحات أردوغان، سيكون الحال أشد خطراً ليس فقط على واقع السوريين بل على مستقبلهم أيضاً، خصوصاً في ظل عمليات التسليح الكبيرة التي تراكمت خلال العقد الفائت.
لا بد للسوريين من أجل استباق حدوث مثل هذه الكارثة أن يتصدوا بروح المسؤولية الوطنية العالية لهذه المرحلة التاريخية، وأن يعملوا على طيّ خلافاتهم، بحيث تسارع جميع الفعاليات السياسية والنّخب الوطنية الديمقراطية السورية إلى مد يد الحوار الوطني فيما بينهم.
في الخريف المقبل، سيرعى مجلس سوريا الديمقراطية عقد مؤتمر وطني للقوى والشخصيات الديمقراطية السورية، وأعتقد أنه نتيجة للتطورات الحالية، يجب التفكير بعقده قبل ذلك إن أمكن. قد يكون هذا اللقاء فرصة مهمة لجميع النخب السورية كي يعملوا معاً على إنتاج تشكيل وطني يستطيع لعب دور في البحث عن حلّ سياسيّ وبنفس الوقت قادراً على منع أي اقتتال بين المكونات السورية لصالح أجندات غير وطنية.
مع هذا الاستحقاق التاريخي، نحن أحوج إلى قادة وطنيين سوريين ـ قولاً وفعلاً ـ يستجيبون لهواجس جميع أبناء الوطن. فعندما يكون الوقت من دم، لا مكان حينها لغير الوطنيين الرافضين لكل الأجندات غير السورية. إن حتمية اللحظة التاريخية التي نعيشها الآن، تقتضي، وبسرعة، أن نسعى إلى خلق واقع سياسي سوري جديد نكون قادرين معه أن نمنع حدوث ما لا نرغب جميعنا في مشاهدته. فهل نعي خطورة ما نحن فيه ونعمل على إنقاذ ما يمكن، أم سنواصل البقاء ألعوبة بيد الغير؟
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!